اتصل بنا
 

لسعة برد!

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2020-02-22 الساعة 17:41

نيسان ـ كان أبي مزارع قمح وشعير. خبر مدللته الأرض، فيقول انها "تختلف في الشبر"، توصيفا لتمايز خصوبتها وملاءمتها لهذا المحصول أو ذاك.
كان يبدأ حراثة الأرض بعد انقضاء موسم الحصاد، الذي يخصص جزءا من محصوله للبذار.
من محصول المساحة الأكثر الخصوبة يختار بذاره للموسم الجديد، فيستعيد لحظة بذارها في اواخر الخريف بتعبير " لسعة برد" كانت تدهمه في الصباح الباكر على الرغم من طابع الصيف الطاغي على الخريف.
كانت " لسعة البرد" تلك إيذانا يفهمه رسالة يستشعر منها رائحة الشتاء القادم، فيمتلأ حبورا بأنه ابن للأرض متمكن من أدواته وفراسته في معرفة أرضه الأثيرة.
ولأن الصيف اعتاد أن يطغى على الخريف، فيقضم منه شهرا أو اثنين، كان أبي يفهم أن تغول الصيف، لا يمنحه صفة من صفات الموت، فيقول : توكلنا على الله وسنبذر الأرض، فلكل سنة بيدرها وغلالها.
كان هذا ديدنه طيلة عقود سبعة في فلاحة الأرض، ومعاشرتها بحب جارف. منحته قمحا وعشقا كانا مؤونته في الحياة، التي خبرها واتقن فهمها، استجابة لقاعدة تقول ان القمح هو الحب وأنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بالأرض، التي كانت تعطي الأردنيين كامل ما يحتاجون من القمح، فضلا عن الشعير المرتبط بغذاء ماشيتهم.
أسمى الأردنيون ماشيتهم ب"الحلال" في تكريس لابدية المفهوم المنسل إليهم من المتصل التراثي العربي؛ فالحلال كما هم ابن للأرض المقدسة في موروثهم، إذ هي لا تجود الا للاوفياء لمكانتها عندهم. ما على الأرض كله حلال إن فهمنا الأرض، كان يقول أبي في معرض رفضه للخبز المستورد الذي ملأ الشاشة بعد أن انسحب قمح البلاد من المشهد. قمح البلاد كان يقول ابي انه سوري وشامي وحوراني، تلك التسميات التي تعني مقصدا واحدا : لا تعطي الأرض أو تجود الا ببذار هي منبته.
كان أبي وكل مجايليه يفهمون ان إغراق البلاد بالبذار الأميركي ستكون له عواقب وخيمة على الأمن الغذائي للأسرة، التي لا تستحق وصفها الا حين ترتبط بالأرض. ففي الأرض ومنها تنبثق الحياة الحقيقية التي لا تقوم على استيراد اساسيات استمرارها.
كان كبار السن يعرفون بالتجربة العيانية أن الأرضاك تنتج مؤونة أهلها إن كانوا حقيقيين، وتكفيهم شرور الاعتماد على الخارج، حتى في أحلك الظروف؛ فلكل سنة بيدرها، على أن لا يجري التعامل مع الأرض بصفتها سلعة تخضع قسرا للعرض والطلب.
كان أبي يدرك أن أميركا خصمه " خواجا يعطينا القمح، كيف؟!"، على ما كان يتساءل استنكاريا!
كان تساؤله محملا بالشك والريبة في نوايا الخواجا الأبيض الذي زرع إسرائيل في بلادنا، ليعطينا القمح مجانا.
سوية ذلك الوعي مرتفعة وذات حساسية تجاه الأخطار التي ستحل بالبلاد التي ما عادت تنتج قَمحها..
الربط الوثيق بين القمح وفلسطين، كان اسشعارا مبكرا بإخطار داهمة للمشروع الغربي في المنطقة العربية، التي فقدت جل مقومات الدولة الوطنية، بفعل الارتهان للاجنبي، بدءا من الرغيف وانتهاء بأحدث صرعات التقنية.
فلا يمكنك أن تكون مستقلا سياسيا الا باكتفائك الإنتاجي والعلمي، إذ لحظتها تدرك الدول الكبرى انك تبني دولتك وعلى طريقتك، وليس على طريقتها.
فادحة خسائر العرب على كل الصعد، وهم لا ينتجون شيئا. هذا أمر لم يدبر بليل، بل جرت فصوله أمام ناظرينا.
ضرب الغرب مساعي محمد علي باشا وابنه إبراهيم في توحيد مصر والشام، وكان الغرب كذلك ضد عبدالناصر ومشروعه، وكل المشاريع العربية لبناء الدولة المستقلة، التي تعد أخطر المخاطر على اسرائيل كتجل للمشروع الغربي في بلاد العرب.

نيسان ـ نشر في 2020-02-22 الساعة 17:41


رأي: سليمان قبيلات كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً